مزهريّة | قصّة قصيرة

 

ارتأت أمّي أنّ حمل حقيبة كبيرة مليئة بكلّ ما يمكن أن تحتاجه وهي في الخارج على ظهرها بدلًا من حقيبة صغيرة، هي صورة غير تقليديّة للمرأة الّتي نراها كلّ يوم، ولأنّ المرأة كما عوّدتني نظريّتها هي أساس المجتمع؛ بحزنها ينكسر شيء ما، بفرحها تطلع زهرة في مكان جميل، فمن حرّيّة بسيطة مثل حقيبة كبيرة يمكن أن تُغيّر أمزجة العالم الكئيبة. ومن هنا فإنّني كلّ يوم أرى أمّي زهرة جميلة يانعة، كبرتُ على أغانينا الّتي ألّفناها معًا بينما هي تحبو وأنا على ظهرها، أمّي الّتي لم تعرف إلى الآن أنّني في إحدى أيّام الدراسة كنت أحمل حقيبتي المدرسيّة على ظهري كالمعتاد وأضعُ فيها مزهريّة.

كنت في المرحلة الإعداديّة وكانت الحقيبة ثقيلة للغاية حتّى صرت أحملها مرّة على ظهري ومرّة بيدي، فتحها صديقي ونظر إليّ بتعجّب، ثمّ استفسر عن أمرها خاصّة أنّني لم أحمل بجانبها الكتب، فابتسمتُ وأخبرته بالأمر ولم أتفاجأ من جوابه. وشاءت الصدفة أن يغيب معظّم المعلّمين في ذلك اليوم والبقيّة لم يفتّشوا عن كتبي، ولكنّهم لم يغفلوا عن المزهريّة الجميلة الّتي قد وضعتها قرب النافذة، الجميع هنّأني على هذه اللفتة الجميلة والتغيير الجميل، صرت أنظر إلى لجميع وأتأكّد أنّ ملامحهم جميعًا قد تغيّرت فعلًا وخاصّة زميلي الرسام، فقد كانت عيناه تلمعان وابتسامته بقيت لوقت طويل جدًّا.      

انتبهت لهذا الأمر الغريب، وهو أنّني عندما أقرأ رواية مثلًا أو أشاهد فيلمًا، تظلّ الشخصيّات معي في نفس الغرفة، وتشاركني اللحظات، تظلّ ظلالها معي، تحمّلني مشاكلها وحبّها وملامحها، تبقى لوقت أطول من اعتقادي بوجودي، مع أنّني أحمل تفاصيل كثيرة في حياتي، تفاصيل مملّة وأخرى ممتعة إلى حدّ كبير. حين أجلس على طاولتي تجلس معي وأصير أسمع حواراتها وأحاول موازنة العقل مع العاطفة لأتفاعل معها، وحين أخرج أسحبها معي كموسيقى أغنية نسيت كلماتها ولكنّها تظلّ ترنّ في أذني، وتظلّ تذكرني بها.    

مرّة كنت أسير في الغابة ومعي مصباح ضوؤه خافت ربّما بسبب الضباب، حينها شعرتُ أنّ ثمّة من ينتظرني في الطريق، أو أنّ ثمّة أحدًا خلفي ولكنّني لا أراه، لا أعلم ربّما كلّما أدرت وجهي اختفى، أو ربّما كالعادة أحد ما قد علق بعينيّ وأنا أنظر إلى الشاشة، تابعت سيري وحدي في الغابة، نعم وحدي، كلّ حين أذكّر نفسي بذلك، وفجأة رأيت وجه أمّي بين الأشجار.

سرت إلى الحديقة بعد أن انتهيتُ من قراءة ثلاثة كتب، جلست على مقعدي المفضّل في آخر الحديقة البعيد عن الضجيج والّذي لا يفضِّل أن يجلس عليه أحد، ثم وأنا شارد بقليل من الضباب أمام عينيّ رأيتُ بابًا كبيرًا جدًّا لا حدود له  يُفتح، ثمّ رأيت وجوهًا أعرفها داخله، تذكّرتها من الكتب حتمًا، نهضت أريد أن أدخل إلى ذلك الباب، لكنّي اصطدمت بالعمود أمامي.

بقيت على هذه الخطّة، كلّ يوم أذهب في وقت محدّد لأجلس على هذا المقعد بمفردي، وعندما أنتهي تلاحقني وجوه وينفتح الباب السرّيّ الكبير الّذي لا حدود له أمامي، لكن هذه المرّة رأيتُ أمّي تفتح الباب على اتّساعه وأحد ما لم أدقّق في ملامح وجهه يقترب منها.       

لم أذهب بعدها إلى الحديقة خوفًا من أن أرى شيئًا آخرًا لا أفضّله، وخوفًا من أكون قد تسلّلتُ إليّ من إحدى الكتب أو الأفلام، ربّما كلّ هذا من دواعي التأثّر بها، ثمّ عندما رأيت أمّي وكانت تسألني عن شيء كنت شاردًا في ما قد رأيته في الباب، متطلّعًا أن تفسّر لي، ولكنّها كانت تنتظر منّي إجابة على سؤالها. أعادت السؤال مرّة أخرى ثمّ أجبتها. "لا بّد أن أبتعد قليلًا عن الكتب أو الناس ممممم؟!". أمّي الجميلة الحسّاسة المختلفة تسلّمني صفة وراثيّة غريبة، صرت حالمًا جدًّا إلى أبعد حدّ، كلّ الصور المؤثّرة تعلق في رأسي وأبني عليها قصصًا كثيرة، والآن صرت أتخيّل بشكل كبير، أرى ذلك جميلًا وتراه أمّي رائعًا ويجلب لها التعاسة، لأنّها تضع  جدرانًا تحيط بها لئلّا يصل إليها أحد حسب قولها، لأنّها لا تعرف إلّا أن تفعل ذلك وهكذا تكون سعيدة.

صرت أجوب في عالمها معها، وأنجذب إلى رؤية الباب الّذي في الحديقة مرّة أخرى، ذهبت إليه وشاهدته ينفتح ووجدتني فيه أرسم لوحة جميلة، نعم لطالما تمنّيت أن أكون رسّامًا ولكنّي لم أخلق ومعي هذه الموهبة، وحينها تأكّدت بأنّ هذا الباب رائع جدًّا، وتماثلت مع رأي أمّي.

وأنا في طريقي إلى البيت انتبهت لوجود كاهنة تسير على غير وجهة محدّدة، كان وجهها يشير إلى ذلك، وتأكّدت عندما سألتها، كنت أرغب أن ألتقي بها حتّى لو تأتني صدفة لأعرف شيئًا عن المستقبل، المستقبل الّذي أصبحت أحاكيه من خلال ذلك الباب. فأخبرتني أنّها ستبدأ، نظرت إليّ وأخبرتني بشيء غريب لم أصدّقه؛ بأنّ شيئًا ما سينكسر في المستقبل القريب، شيئ ثمين بالنسبة إليّ، هذا أهمّ شيء قالته أمّا الباقي فأعرفه جيّدًا. أنا جاهل الآن رغم عبقريّتي الّتي يلتفت إليها الجميع، لم أكن أريد أن ألجأ إلى مثل هذه الأشياء، ولكنّي على الأقلّ أمضيت نصف ساعة في التفكير مع أحد بمستقبلي المجهول، أفكّر الآن بالمزهريّة وحدها، هل أصدّق الكاهنة؟

عدت إلى أمّي وتأمّلت وجهها الجميل ثمّ قررت أن أدعوها لترى الباب في الحديقة بعينيها، كانت أمّي تشجّع بي هذا الجانب، لطالما جعلتني في طفولتي أتخيّل غيمة ماطرة في السماء الصافية، وتسألني عن الثمار الّتي تحملها الشجرة الّتي بسقف الغرفة، وعن ألوان العصافير الّتي تأكل البذور أمام سريرنا، بالتأكيد سوف تذهب معي لترى الباب في الحديقة. أخبرتها بالأمر، وانتظرت ردّها، تركت كلّ شيء ورافقتني، عندما وصلنا أخبرتها أنّ عليها ربّما أن تجلس على الكرسيّ لنتمكّن من رؤية الباب، (تربّطت) يدا أمّي كما تصف عندما تتوتّر من شيء، قلت لها أن تنطق كلمة تحبّها في سرّها لتشعر بالارتياح، ارتاحت، وانتظرنا أن نرى الباب الّذي لا حدود له، فإذا به يُفتح على اتّساعه... رأينا أشياء كثيرة... لكنْ انكسرت المزهريّة.

  


 

بيان أسعد مصطفى

 

 

 

كاتبة، قاصّة ومترجمة فلسطينيّة من الأردنّ، حاصلة على البكالوريوس في «الأدب الإنجليزيّ». كتبت في عدد من المواقع والمجلّات العربيّة، وصدرت لها مجموعة قصصيّة بعنوان «أنفاس» (2021).